قصة منزل بورلي أكيد ماما نحلة؛ على شان تجيب العَسل ده كلُّه.
كالعادة زي كل يوم الصبح، رجلي أخدتني لكافيتيريا الكلية بمجرَّد ما دخلت الجامعة، ما أنتوا بقيتوا عارفين الروتين اليومي، لكن اللي كان خارج العادة المرَّة دي، هو إني قَفشت “كريم” بيعاكس، طبعًا هو مكنش واخد باله منّي، لو يعرف إني هشوفه مكنش عمل كده، لأنه عارف إني هحفِّل عليه، وساعتها قفشته من لياقة التيشيرت وقولت له:
-إيه ده؟ بقى “كريم”؛ الشاب التَّقي الوَرِع بيعاكس؟
-ماهو.. هقول لك؛ اصبر بس.
-أصبر إيه، دا أنت طلعت فَلتان وعَدمان، وزير نساء، سكلتك أمُّك.
-خلاص ياعم “عصام” بقى، هو أنت قفشتني بنشِل محافظ في أتوبيس، دا كلمتين على الماشي.
-حد برضه يقول لبنت ماما نحلة؟! عاوز تعاكس عرَّفني، اسأل استشير، وأنا أقول لك تقول إيه ومتقولش إيه.
-فُكَّك بقى يا “عصام”، إيه الكتاب اللي معاك ده؟
-دا يا عم الفَلتَان؛ كتاب بيتكلِّم عن أشهر البيوت المسكونة في العالم.
-والله يابني أنت مش ناوي تجيبها لبَر، أنا بقيت بحلم بحاجات غريبة من ورا دماغك دي، كل حاجة بنتكلِّم فيها؛ لازم أحلم بها.
بصّيت له بدون ما أعلَّق على كلامه وبعدين قولت له:
-ما تحلم يا عم، هو أنت بتدفع ضرايب على الأحلام؟
ساعتها مد إيده ناحية الكتاب؛ فناولته الكتاب وأنا ببتسم، بعدها بَص في غلافه شوية وفتحه بشكل عشوائي، ولقيت إنه اتفتح على موضوع بيتكلم عن “منزل بورلي”؛ فعرفت إن الرحلة الليلة دي هناك، لكنه سألني وقال:
-أنت قرأت اللي مكتوب عن “منزل بورلي” ده؟
-قرأته، وكالعادة الكتاب بيقول إن البيت ده من أشهر البيوت المسكونة في انجلترا، كل اللي سكنوه قالوا إنهم شافوا فيه حاجات غير طبيعية، وحصلت معاهم أشياء غريبة، لدرجة إنهم جابوا باحث في الخوارق، وأكِّد إن البيت فيه نشاط غير طبيعي، وبعدها حصل تحقيق كبير في الكلام ده، وفي رأي قال إن في ناس من ضمنهم خبير الخوارق افتعلوا الظواهر دي، وآراء تانية قالت إن الأصوات دي ممكن من فيران أو أي حيوانات عمومًا، وإن الأشباح اللي البعض قال إنه شافها؛ ماهي إلا أكذوبة، واتقال إن تقرير باحث الخوارق فِشِنك، وإنه لا يستند إلى أدلة، لكن أنا جوايا شيء غريب، بيقول إن البيت ده وراه سر، يمكن لسه محدِّش عرف يوصلّ له، وأعتقد إن السر في البداية، لأن البيت اتبنى على أنقاض بيت تاني أكلِته النار، والظواهر الغريبة بدأت تظهر من بعد سنة تقريبًا من بناء البيت بعد الحريق اللي حصل، أنت إيه رأيك يا “كريم”؟ إيه السبب اللي ممكن يخلِّي البيت ده يبقى مسكون؟
-والله يا “عصام” علمي علمك، إيه اللي هيعرَّفني يعني؟ وبعدين اسكُت بقى، أحسن أحلم بالبيت النهاردة، زي ما بيحصل كل مرة بعد الكلام معاك في أي حاجة.
قضينا وقتنا الظريف في الكلية زي كل يوم، وبعدها كل واحد فينا روَّح على بيته، وفي البيت، قعدت مع أمي شوية، اتكلمنا واتغدِّينا، وبعدها دخلت أوضتي، المغرب كان أوشَك خلاص، والشمس بدأت تغيب، فتحت اللاب توب على المُتصفِّح، وكنت في انتظار الغياب التام للشمس، على شان الموقع يظهر في الوقت اللي اعتاد على الظهور فيه.
قضِّيت شوية وقت وأنا بقلِّب في مكتبتي، لحد ما سمعت صوت حاجة اتحرَّكت فجأة، بصيت لقيت شاشة اللاب توب بتتهز، الهزَّة كانت عنيفة لدرجة إن اللاب توب اتزحزح من مكانه، رجَّعت الكتاب اللي كان في إيدي؛ وروحت بسرعة عند اللاب توب، قعدت قدام صفحة الموقع اللي كانت لسَّه لونها أسود ومفيش حاجة ظاهرة عليها، ومعدَّاش وقت طويل، ولقيت إن لون الصفحة من النُّص بدأ يتغيَّر، اللون الأسود بينكسر، وفي تفاصيل بدأت تظهر، ومع الوقت لقيت التفاصيل دي بتعطي هيئة بيت قديم، اللي هو طبعًا بيت بورلي، أو منزل بورلي، زي ما هو معروف عنه.
الصورة اللي كانت عن البيت في الكتاب، مكانتش واضحة كويس، خصوصًا إنها كانت بالأبيض والأسود، وتصوير قديم بكاميرا بدائية، لأن البيت اتبنى للمرَّة التانية سنة 1862، يعني بعد 21 سنة من الحريق اللي التَهم البيت أوِّل مرة.
شاشة اللاب توب اتقفلت فجأة، ولما مدِّيت إيدي أفتح اللاب من تاني، لقيتني بظهر في مكان غير أوضتي، ولقيت نفسي فعليًا واقف قدام منزل بورلي.
الدنيا كانت ليل والجو هادي، البيت حواليه مساحة كبيرة مزروعة، يعني أوِّل حاجة تيجي في بال أي حد يشوفه، هو إن هيئة البيت لا توحي بكل اللي بيتقال عنُّه، فضِلت واقِف وعيني على الشبابيك المقفولة، والأوَض الضلمة، الشَّكل العام بيقول إن الكل نايم، لكن فجأة لقيت شبَّاك أوضَه بينوَّر، وبعدها لمحت حد واقف ورا إزاز الشِّباك، كان بيبُص عليا ومبيتحرَّكش، مش عارف ليه بدأت أشبِّه عليه، كنت حاسس إني أعرفه، بدأت أقرَّب على شان أتأكِّد من صحِّة إحساسي، واتأكِّدت إني صح، لأن اللي واقف ورا الشباك كان “كريم”!
وفجأة النور انطفى و “كريم” اختفى من ورا الشباك، الوقت بدأ يفوت، ومفيش أي حاجة غريبة حصلت، غير الحدَث اللي ظهر فيه “كريم”، لكن الهدوء ما استمرِّش كتير؛ فجأة سمعت صرخة بِنت، حسيت إنها أقوى من إني أتحمِّلها، حطيت إيدي على وداني من شدِّة الصوت، وفي اللحظة دي، لقيتني بغمَّض عيني غصب عني، على شان النور اللي طلِع من كل حتة في البيت فجأة، أجبرني إني أغمَّضها.
لما فتحت عيني عرفت إن الهدوء مُش مُطَمئِن، أو بمعنى تاني، إن ده هو الهدوء اللي بيسبق العاصفة، لأن البيت كان كله ضلمة، ماعدا أوضة واحدة، كان ظاهر من ورا شبَّاكها بِنت، ضهرها للشباك، وكانت على ما يبدو إنها خايفة من شيء، لأنها كانت لازقة في الشباك وكأنها بتهرب من حاجة، ولولا إن الحيطة وراها كانت كمِّلت هروب.
مفاتتش ثواني من تفكيري في سبب خوف البنت، وبدأت أشوف ظِل أسود بيقرَّب منها، كان ظِل شخص، لكن كل ما كان بيقرَّب من البنت كان بيكبر، وبيتحوِّل لشيء ضَخم، لدرجة إنه كان بيبلع نور الأوضة بشكل تدريجي، لحد ما قرَّب تمامًا منها، وساعتها طَغى على كل شيء، الدنيا بقت ضلمة فجأة، والبنت نفسها اختفت، أو على شان أكون دَقيق، الظِّل بَلع البنت.
مبقتش قادر أفضل برَّه البيت أكتر من كده، رجلي أخدتني وبدأت أقرَّب من البيت، لحد ما وقفت قدام الباب، انتظرت شوية ومحبِّتش أعمل أي تصرُّف، لحد ما لقيت الباب اتفتح، واتفاجأت إن “كريم” هو اللي بيفتح لي وهو بيقول:
-ادخل يا “عصام”، تعالَ.
-هو إيه اللي ادخل يا “عصام” تعالَ؟! أنت ليه محسِّسني إني معزوم عندك في البيت؟
-يابني مش أنت دايمًا بتشاركني الأحلام اللي بشوفها؟
بصيت لع واكتفيت بإني قولت:
-طبعًا، أومال.
بعدها كمِّلت كلامي وقولت…
-المهم قول لي، شوفت حاجة جوَّه؟
-شوفت؟ دا أنا ميِّت من الرعب، معرفش الحِلم ده ماله كده.
-شوفت إيه طيِّب؟
-بِنت، بُص هي مِش بنت أوي، هيئتها من برَّه تقول إنها بنت وكل حاجة، لكن ملامحها بشعة، وبيخرج منها حاجة لونها أسود، ظِل أو دخان، بتفضل تكبر وتتمدِّد؛ لحد ما تملا البيت كله، بتطارد أي حد تشوفه في طريقها، تخيَّل يا “عصام” إني اتفاجأت بها واقفة قدامي، كانت بتبص لي بصَّة غريبة، وقفت جسمي متلبِّش والخوف مكتِّفني، معرفتش أهرب من قدامها، دا أنا كنت هعملها على نفسي من الخوف يا أخي.
-وبعدين، إيه اللي حصل؟
-مفيش حاجة حصلت، بعد ما بصَّت لي كتير، لقيتها سابتني ومشيت ولا كأنّي واقف قدامها.
-مُش يمكن مكانتش شيفاك وبتبُص لحاجة تانية؟
-قصدك إيه؟ يعني أنا شفَّاف مثلًا؟
كنت عاذر “كريم”؛ لأنه ميعرفش إن الموقع بينقلنا لمكان الأحداث، لكنه بيخلينا في بُعد أعلى، يعني غير مرئيين للموجودين، حتى ولو كانوا من الجِن والأشباح والعفاريت، يعني باختصار، بنشوف السبب اللي ورا الظاهرة أو الحدث الغريب، بدون ما حد يشوفنا، على شان كده ردِّيت عليه وقولت:
-عادي، ليه لأ.
في الثواني اللي اتكلِّمت فيها مع “كريم”، لاحظت إن في حاجة اختلفت، ديكور البيت اتغيَّر، يمكن التغيُّر كان في جزء من الثانية، يعني كان أسرع من إننا ننتبه له، لدرجة إننا وقفنا نلف حوالين نفسنا، “كريم” كان مستغرب، لكن أنا كنت عارف اللي فيها، الزمن اتغيَّر وانتقلنا لزمن تاني، ودي مش جديدة على الموقع، يا ما حصلت معانا قبل كده، وساعتها لمحت ورقة تقويم على الحيطة، فهمت منها إننا في سنة 1930.
في اللحظة دي؛ سمعنا صوت حد نازل على السِّلم، الخطوات كانت سريعة، وكانت معاها صرخة فزع، فضلنا ننتظر والخطوات بتقرَّب، لحد ما شوفنا واحدة نازلة تجري، تقديري إنها كانت داخلة على 40 سنة، لكن واضح إنها بتهرب من شيء مخيف، ومع الصرخات كانت بتنادي على حد، وكانت بتكرَّر الاسم كتير وبتقول:
-“أديلايد”، “أديلايد”.
لما نزلت من على السلم وبقت في الريسيبشن اللي كنا واقفين فيه، لقيناها وقعت في الأرض، في اللحظة دي شوفنا باب أوضة في الدور الأرضي بيتفتح، وخرجت منه بنت، سنّها ميعدِّيش 20 سنة، كانت بتجري عليها وهي خايفة، ولما وصلت عندها؛ ساعدتها تقوم من الأرض، لحد ما أخدتها تقعد على كرسي قريِّب، ومدَّت إيدها ناحية ترابيزة موجودة جنب الكرسي، كان في دورق مايَّه إزاز وجنبه كوبّايه، جابت لها شوية مايّه تشرب، أخدت الكوباية وشربت بإيد مهزوزة، الفزع كان لسَّه متمكّن منها، على شان كده “أديلايد” سألتها وقالت:
-إيه اللي حصل؟ ليه كل الفزع اللي أنتي فيه ده؟
أخدت نَفَسها بالعافية وقالتلها:
-جُمجمة.
وِش “أديلايد” اتغيَّر والصمت أخدها لثواني، وبعدها بلعت ريقها وقالت:
-جُمجمة؟! فين الجُمجمة دي؟
-فتحت الدولاب على شان أرتِّبه، واتفاجأت بشيء غريب؛ ورقة لونها بُنّي؛ حجمها كبير، مدِّيت إيدي ومسكتها، ولقيت ملفول فيها صلبة، كل اللي كان في بالي وقتها؛ إنها حاجة تخص “ليونيل”، فضولي أخدني وفتحت الورقة، واتصدمت لما لقيت فيها جُمجمة!
ساعتها “أديلايد” بلعت ريقها وقالت:
-تقصدي إيه يا ماما، يعني بابا هيجيب جمجمة في الدولاب؟
-ده اللي حصل، هي وقعت على الأرض من شدِّة الخوف اللي كنت فيه، وفعلًا مش فاهمة هي وصلت للدولاب ازّاي، ومين اللي وصَّلها؟ ده الشيء اللي لازم “ليونيل” يوضَّحه.
الأحداث بدأت تجري، في اللحظة دي باب البيت اتفتح ودخل منه شخص، عمره كان في حدود 45 سنة، بمجرَّد ما شافهم قاعدين والخوف مسيطر عليهم، وقف يبص لهم وهو مستغرب، لكنه كان ساكت، وبعدها بَص لمراته وقال:
-إيه اللي حصل يا “ماريان”؟
مجاوبتش على السؤال، لكنها قابلته بسؤال تاني:
-الجُمجمة بتعمل إيه في الدولاب يا “ليونيل”؟
ساعتها ابتسم ابتسامة سخرية وقال:
-جُمجمة إيه اللي بتتكلِّمي عنها؟
-أنت اللي المفروض تجاوب على السؤال ده مش أنا.
-واضح إن في سوء تفاهم، في كل الأحوال، مش هينفع نتكلم قدام البنت.
وبعدها بَص لبنته وطلب منها تسيبهم لوحدهم، وبعد ما البنت مشيت بص لمراته وقال:
-إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟
-أكيد مُش أنا اللي جايبة الجُمجمة، ولا بِنتنا، ومش فاضل غيرك.
-أنا فعلًا معرفش حاجة عن اللي بتقوليه ده.
-يعني الجُمجمة وصلت الدولاب لوحدها؟
-أكيد في تفسير، لو دوَّرنا أكيد هنوصل للسبب.
-أوعى تكون بتشتغل في الأعمال السفلية.
-ازّاي تفكّري بالطريقة دي؟ إزّاي تتهميني اتّهام بَشع زي ده؟!
-إيه مبرِّر وجود الجمجمة لو مكَنش ده السبب؟
-قبل ما تسأليني كل الأسئلة دي، عاوز أتأكِّد من صحة كلامِك الأول.
-تعالَ نطلع الأوضة، وشوف بنفسك.
بمجرَّد ما بدأوا يتحرَّكوا، لقيت نفسي أنا و “كريم” في الأوضة، فعلًا الدولاب مفتوح، وفي شوية هدوم واقعين منُّه، وشوفنا الورقة، اللي كانت واقعة ومفرودة في الأرض، والجُمجمة فوقها، ساعتها “كريم” قال:
-هي دي جُمجمة راجل ولا سِت؟
-يعني كنت بتعاكس البِنت وتقولها عسل ونحلة، ومش عارف تحدد دي جُمجمة راجل ولا سِت؟
-هو أنت بتحفِّل عليا في الحِلم كمان؟
-ياسيدي لا تحفيل ولا حاجة، لكن أنا متأكِّد إن دي جُمجمة سِت.
سمعنا صوت خطوات بتقرَّب من الباب، ساعتها عرفنا إن “ليونيل” ومراته “ماريان” جايين على الأوضة، وفعلًا؛ الباب اتفتح، وفي اللحظة دي؛ الورقة اللي على الأرض اختفت بالجُمجمة اللي عليها، على شان “ماريان” تُقف في موقف مُحرج قدام “ليونيل”، اللي بصّ لها وهي بتشاور على الأرض الفاضية وهي مذهولة وقال:
-فين الجُمجمة دي؟
ساعتها ردَّت بصوت متوتِّر وقالت:
-كانت هِنا.
-أيون يعني راحت فين؟ صاحبها جِه أخدها ومشي؟!
أي حد في الموقف ده؛ هيقف ساكت ومش هيعرف يرُد، لكن إحنا شوفنا الجُمجمة فعلًا، وشوفناها وهي بتختفي، وبرغم إن في حاجات كتير مش مفهومة لحد دلوقت، لكن كنا عارفين إننا مُش هنرجع من الرحلة، غير وإحنا فاهمين سبب كل اللي حصل في البيت ده.
لمَّا سكوت “ماريان” طال، لقينا “ليونيل” سابها ونزل تَحت، ساعتها قرَّبت من الدولاب، وبدأت تدوَّر فيه من تاني، وساعتها رجليها خبطت في حاجة على الأرض، ولما بصَّت عند رجليها، لقت نفسها بتدوس على الجُمجمة، اللي رجعت مكانها من تاني فجأة، بالورقة اللي كانت عليها!
في اللحظة دي، بدأت تُصرخ وتتنطَّط، وكأنَّها واقفة على حتة حديد ملتهبة، صوتها كان عالي وبتصرخ بهيستيريا، لدرجة إن بنتها وجوزها طلعوا، وفتحوا باب الأوضة ودخلوا، أوِّل ما بنتها شافتها في الحالة دي؛ جريت عليها وأخدتها في حضنها، لكن جوزها اللي كان واقف مذهول، لما شافها بتشاور على الأرض من تاني، وكانت فاضية زي المرَّة اللي فاتت، والجُمجُمة مش موجودة.
معرفناش إيه اللي حصل تاني في الأوضة، المشهد انتهى على كده، لكن اتفاجأنا إننا في الريسيبشن من تاني، وساعتها شوفنا “ليونيل” وبنته “أديلايد” وهُما قاعدين بيتكلِّموا، البِنت كانت منهارة وبتقول:
-أنا قلقانة جدًا على ماما.
ساعتها طَبطب على كتفها وقال:
-هي أكيد أعصابها تعبانة شوية، هَشوف دكتور يطمِّنا عليها.
الوقت فات؛ لكننا لسه في نفس المكان، كل اللي اتغيَّر، هو إن كان في شخص مع “ليونيل” و “أديلايد”، كان لابس بدلة ومعاه شنطة، وطبعًا فهمنا إنه الدكتور من كلامه، لما قال:
-أعصابها تعبانة، عندها حالة عصبية بتخليها تشوف هلاوس.
في اللحظة دي البنت ردِّت عليه وقالت:
-لكن أكيد في سبب للحالة اللي هي فيها دي.
-أسباب الحالة دي كتير، لكن مش قادر أحدِّد هي إيه بالظبط، واضح من كلامها إنها بتشوف حاجة مش موجودة، خصوصًا إن والدك شرح لي حكاية الجُمجمة.
البِنت مردَّتش على كلام الدكتور، لكن ملامحها بتقول إنها خايفة من شيء مجهول، مش مجرد خوف على أمّها، في حاجة تانية مش مفهومة باينة على ملامحها، على شان كده سكتت، وأخدت علبة الدوا من إيد الدكتور، بعد ما طلب إنها تعطيها الدوا بانتظام.
المشهد اختلف قدامنا، كنا لسه في الريسيبشن، لكن مفيش حد معانا، الهدوء ده مكانش له غير تفسير واحد، وهو إن الكل نايم، ومفيش أي حاجة بتحصل، ودي كانت فرصة إني أتكلِّم مع “كريم” وأقول له:
-أنت إيه رأيك في حكاية الجُمجمة دي؟
-والله يا صاحبي علمي علمك، على آخر الحِلم هنعرف، زي كل مرَّة.
في اللحظة دي، سمعت صوت باب بيتفتح، الصوت كان بطيء ومُخيف، ساعتها ظهر على ملامح “كريم” إنه خايف من الصوت، فعرفت إنه سامعه زي ما أنا سامعه بالظبط، بصيت حواليا أشوف فين الباب اللي اتفتح، لكن كل البيبان كانت مقفولة، والأكيد إنه مكانش باب من بيبان الأوَض اللي فوق، لأن الصوت كان تَحت عندنا، في اللحظة دي، لمحنا حاجة بتخرج من تحت الأرض، كانت لونها أسود، حاجة كده زي الظِّل أو الدُّخان، لكنها بدأت تِكبر، لحد ما في النهاية، اتشكِّلت على هيئة بِنت، كانت بتتحرَّك ببطء شديد، وكانت رايحة ناحية أوضة “أديلايد”.
اللي توقَّعته حصل، لما وصلت لباب الأوضة، دخلت منُّه من غير ما تفتحه، زي ما خرجت من الأرض كده، وبعدها سمعنا صرخة فظيعة، كانت صرخة “أديلايد”، اللي فتحت الباب بعدها وخرجت وهي بتجري، على شان تتفاجئ إن “ليونيل” نازل بيجري على السِّلم لمَّا سمع صوتها، ولما وصل عندها حَضنها وقال:
-اطَّمّني، مفيش حاجة، أنا موجود جنبك.
ساعتها البنت قالت بصوت مهزوز:
-الغطا كان بيتشد من عليا، افتكرت إنّي بحلم، ولما فتحت عيني لقيت الغطا واقع على الأرض تحت رِجلين شيء مرعب، لونه أسود، أنا شوفت شَبح مُخيف في الأوضة.
في اللحظة دي، الموقع منحني ميزة لأول مرَّة، وهو إني قدرت أقرأ أفكار “ليونيل”، وساعتها عرفت إنه بدأ يربط بين كلام بنته وكلام مراته، في البداية، كان فاكر إن اللي حصل قدام البنت هو اللي مأثر عليها، لكنه راجع نفسه وبدأ يفكر في اتجاه تاني، كانت أفكاره بتربط بين الجُمجمة اللي ظهرت لمراته، وبين الشبح اللي ظهر لبنته، وقال في نفسه: لو إن ده بيحصل بسبب مراته، كانت البنت شافت جُجمجة زي أمِّها، مُش شبح، على شان كده أخد البنت من إيدها وراح بها ناحية أوضتها، وساعتها شاف بعينه الغطا واقع على الأرض، وشاف الشَّبح اللي كان بيبهت بالتدريج لحد ما اختفى.
عرفت إن دي هي اللحظة الفاصلة في الحكاية، كده كل الأطراف اللي عايشين في البيت عرفوا إن في حاجة مش مظبوطة، ومبقاش في مجال إن حد يكذِّب التاني، لكن وهما واقفين، لمحوا “ماريان” نازلة على السلم وهي بتقول بكل هدوء:
-الجُمجمة في الأوضة.
وفي ثواني، لقينا نفسنا في الأوضة، شوفناهم وهُما مبحلقين في الجُمجمة، اللي كانت فوق الورقة البُني اللي على الأرض، واللي اختفت فجأة تاني، لكن بعد ما كلهم شافوها.
اتنقلنا للريسيبشن من تاني، لكن الوقت كان مختلف، النهار كان في بدايته، يبدو كده إن محدِّش فيهم نام بعد اللي حصل، كانوا التلاتة قاعدين في صمت، لكن “أديلايد” بدأت تتكلِّم وتقول:
-كنت بشوف حاجات غريبة من أوِّل ما جينا البيت ده، لكن كلها كانت برَّه البيت، كنت براقبها من الشِّباك، بَس مكنتش قادرة أتكلّم فيها، خوفت حد يوصفني بالجنون، لكن الأحداث بدأت تزيد، البيت مُخيف فعلًا.
الكلام كان مُلفِت للنظر، ويمكن ده فسَّرلي سبب الخوف الزايد؛ اللي كان على وشِّها وقت ما الدكتور كان موجود، الأحداث بدأت تكشف نفسها، وخصوصًا لما “ليونيل” سألها:
-كنتي بتشوفي إيه؟
-بشوف بِنت بتلعب في حديقة البيت، بتظهر وبتختفي فجأة، وكنت أحيانًا بشوف عربية بيجُرَّها حصان والبنت فوقها، وأحيانًا كنت بشوف بنت ماشية بدون راس، حاجات كتير، لكن العامل المشترك هو البنت.
الكلام كان غريب، ومُخيف، لدرجة إن “ليونيل” قال لهم:
-لازم أكلم حد من خبراء الخوارق يزورنا ويشوف البيت، ويقول لنا إيه الحكاية بالظبط.
ومن تاني، لقينا نفسنا في الريسيبشن، الدنيا ليل وكنا لوحدنا، وشوفنا نفس الظِّل الأسود، الشَّبح، كان ماشي بُبطء، وكنا سامعين أصوات كتير، صوت أجراس، حاجات بتخبَّط، إزاز بينكسر، البيت زي ما يكون بيترَج من مكانه، بالظبط اللي حصل وقتها كان نفس الأحداث اللي قرأتها عن البيت في الكتاب، هي اللي كانت بتحصل بالحرف.
والوقت اختلف من تاني، في اللحظة دي، ظهرت شخصية جديدة في الأحداث، ومكنتش محتاج وقت على شان أعرف إن ده هو “برايس”، خبير الخوارق اللي قرأت اسمه في الكتاب، لكن ساعتها “كريم” قال لي:
-مين ده؟
-ده “برايس” خبير الخوارق.
-عرفت منين؟
-ها!
-بقول لك عرفت منين؟
-اسمه كان في الموضوع اللي بيتكلِّم عن البيت.
حوارنا وقف لحد كده، لأن كان في حوار تاني داير، وكان لازم نركِّز معاه، وهو كلام “برايس” اللي كان بيقول:
-بعد اللي سمعته منكم، عاوز أقول إن مُش دي المرَّة الأولى اللي بزور فيها البيت، أنا حضرت قبل كده، اللي كانوا في البيت قبلكم، كانوا بيشتكوا من أحداث غريبة، ولما كشفت على البيت، رصدت نشاط غير طبيعي بالفعل، وأدركت إن في روح عايشة هنا، وإن هي السبب في كل اللي بيحصل، عملت أكتر من جلسة تحضير، لكن الروح كانت عنيدة ورافضة تكشف عن سبب وجودها، كل اللي نعرفه عن البيت، إنه اتحرق من فترة طويلة، النار أكلته تمامًا، ولما اتبنى من تاني، بدأت تحصل فيه ظواهر غريبة، زي اللي حصلت معاكم، الجُمجمة والشَّبح، غير إني عرفت إن بعض الناس من خارج البيت، شافوا بعينهم أضواء، وسمعوا أصوات، وحاجات كتير، لكن كلامي محدِّش صدَّقه، كل اللي أقدر عليه دلوقت، هو إني أعمل جلسة تانية، وأحاول أتواصل مع الروح من تاني، وأعرف سبب وجودها.
الوقت اختلف، الدنيا بقت ليل، الجو ضلمة، لكن كان في حدث مهم بيحصل، وهو إن “برايس” ومعاه “ليونيل” و “ماريان” قاعدين على ترابيزة بيضاوية، فوقها شموع قايدة، وشرايح خُبز ناشفة، وإيدهم متشبِّكة في بعض، فعرفت إنهم في جلسة التحضير، وغالبًا “أديلايد” مكانتش موجودة، لأن جلسات التحضير بتحتاج عدد فردي.
بعد إتمام طقوس جلسة التحضير، واستدعاء الروح اللي موجودة، بدأنا نسمع رنين أجراس في البيت، نور الشموع بدأ يتوهَّج ويعلا أكتر، النَّجف بدأ يتهز، وبعدها سمعنا صوت “برايس” وهو بيسأل:
-مين معايا؟
فاتت ثواني من السكوت، قبل ما يرجع “برايس” يتكلِّم تاني، ولكن المرَّة دي بصوت بنت، وكان بيجاوب على نفسه وبيقول:
-“أديلايد”.
عارفين اللي حصل ده معناه إيه؟ إن الروح اللي موجودة اسمها “أديلايد”، لكن مش معقول روح “أديلايد” تسكن البيت وهي لسه عايشة، في حاجة غامضة وغريبة، ومن باقي الحوار اللي سمعناه، عرفنا إن الروح مش متقبِّلة وجود حد في البيت، وإنها بتلجأ لطرق التخويف على شان تجبر سكَّان البيت إنهم يغادروا، قبل ما تلجأ لطُرق تانية، وهي الانتقام والقتل.
لكن عرفنا إن الجلسة فشلت، لأننا لمحنا الخوف على ملامح “برايس” اللي بدأ يتخنق، وبعدها بدأ يقول بصوت مخنوق:
-انصرفي، انصرفي.
المشهد اتغيَّر قدامنا، وشوفنا “ماريان” وهي بتتكلم مع “ليونيل” وبتقول له:
-أنا مُش هقعد في البيت بعد النهاردة، أنت لازم تأجر بيت تاني، البيت فيه شيء مخيف، محدش عارف يتعامل معاه، ممكن الأمور تتطوَّر وحد فينا يموت، سلِّم البيت لصاحبته وشوف لنا بيت تاني.
رجعت لأول الرحلة، كنت واقف في مكاني قدام البيت، الدنيا ليل والجو هادي، لكن المرَّة دي كان معايا “كريم”، واتفاجأنا باتنين واقفين ومعاهم واحدة سِت، كانت بتقول لهم:
-البيت مفيهوش أي حاجة، كانت حجة للمستأجر على شان يسيب البيت، ويتهرَّب من باقي مدة الإيجار، وكلام خبير الخوارق مش صحيح، هو اللي غيَّر صوته لصوت بنت، وهو اللي اخترع كل الحكاية دي، لأني رفضت إنه يستأجر البيت من فترة، ومش دي المرَّة الأولى اللي يقول فيها كلام غريب ومخيف عن البيت.
لكنهم اختفوا من قدامنا فجأة، على شان نشوف باب البيت وهو مفتوح، ونفس الشخصين خارجين من الباب، كانوا معاهم شنطهم وزوجاتهم وبناتهم، وسايبين البيت وماشيين، على شان كده “كريم” سألني:
-ده معناه إيه؟
-ببساطة اقتنعوا بكلام صاحبة البيت، وطبعًا سكنوا فيه، والروح عملت معاهم الواجب، ودلوقت سايبينه وماشيين، طبعًا إحنا دلوقت في زمن تاني غير اللي كانوا بيتكلموا فيه، لاحظ إن هدومهم مختلفة تمامًا.
ولحد هنا، المكان اتغيَّر من حوالينا، الحديقة مبقتش موجودة، لكنها نفس المساحة، أما البيت، فكان شكله مختلف تمامًا، الدنيا كانت ليل، وشوفنا قدام البيت بنت بتلعب جنب عربية بحصان، وكانت في واحدة ست قاعدة قريب منها، أكيد أمها، وبعد شوية ندهت عليها وقالت:
-“أديلايد”، كفاية لعب النهاردة، ميعاد النوم.
أخدتها ودخلت البيت وقفلت الباب، وبعدها؛ شوفنا اتنين بيقربوا من البيت، ومعاهم أزايز بلاستيك وشعلات نار، كان واضح جدًا إن الأزايز دي فيها مواد مشتعلة، بدأوا يغرقوا حيطان البيت والشبابيك، لدرجة إنهم كسروا شوية شبابيك على شان يرموا فيها المواد المشتعلة والنار، وبعد شوية، شوفنا البيت عبارة عن كتلة فحم كبيرة.
بعدها شوفنا المشهد المعتاد، عربيات إسعاف قديمة، وأفراد شرطة، وبعد بحث طويل جدًا، مقدروش ينتشلوا إلا جثة الأم، أما البنت، فتقريبًا كده محدش قدر يعثر عليها تحت أنقاض البيت اللي بقى عبارة عن كتلة رماد. وفجأة صوت اتنين من الناس اللي واقفين بدأ يظهر في المشهد، وسمعنا واحد منهم بيقول للتاني:
-صاحبة البيت اللي اشترته جديد، مسكنتش فيه غير كام يوم، محدش يعرف هي مين ولا جت منين، كل اللي نعرفه إن صاحب البيت باعه على شان هيسكن في مدينة تانية، واستغربنا إنه باعه بالسرعة دي، لواحده جايه من برَّه المدينة، ومنعرفش هي كانت عايشة لوحدها ولا لأ، بيني وبينك، البيت كان مطمع لناس كتير بسبب المكان بتاعه، وأكيد الحريقة دي مش صدفة.
بعد اللي شوفناه قدامنا وسمعناه، سألت “كريم” وقولت له:
-فهمت حاجة؟
-لأ.
-أنا بقى أقول لك، روح البنت اللي استدعاها “برايس” خبير الخوارق، واللي كانت اسمها “أديلايد”، مكانتش بنت “ليونيل”، دي البنت اللي شوفنا أمها بتنادي عليها وهي بتلعب جنب العربية والحصان، وبعد الحريقة الإنقاذ عثر على الأم، لكن البنت لأ، وأكيد روحها هي اللي ساكنة المكان هنا. ويبدو كمان إن محدش يعرف حاجة عن الست اللي اشترت البيت، ولا يعرف إن كان معاها بنت، على شان كده محدش شغل دماغه يدور عليها، وأكيد كمان النار قضت على جسمها، واللي اتبقى منها اترفع مع أنقاض البيت بدون ما حد ينتبه، ومن المؤكد هي اللي ساكنة في المكان، وبتنتقم من اللي بيسكنوا فيه، أقول لك؛ الشبح اللي شوفناه، كان نفس حجم البنت فعلًا، يعني تكذيب الأحداث اللي قرأت عنها في الكتاب، كان كلام صاحبة البيت الأخيرة، اللي أكيد حصلت عليه بأي طريقة لأن مفيش وريث لصاحبته اللي ماتت فيه، على شان سمعة بيتها طبعًا، لكن كلامها مش هيغير من حقيقة إن البيت مسكون بروح “أديلايد”.
كل اللي حوالينا اختفوا، بعدها الحديقة رجعت ولقينا نفسنا فيها، والبيت رجع للشكل الجديد اللي كان عليه، لكنه كان ضلمة، دليل على إن مفيش حد ساكن فيه، وإنه خلاص، الحقيقة اللي تم إنكارها كتير فرضت نفسها، وروح البنت اللي البيت اتاخد منهم بالظلم، قدرت تحتفظ بحقها، وبقانون غير قانون البشر، اللي مش دايمًا بيكون مُنصف.
بدأت أحِس إن الأرض تحت مني بتختفي، ومعاها جسمي بدأ يبهت، عرفت كده إن الرحلة بتنتهي، بعد ما عرفنا حقيقة منزل بورلي، لكن لاحظت إن “كريم” مبيتأثّرش بحاجة، كان لسه زي ما هو، يمكن على شان أنا جيت ولقيته يبقى همشي وأسيبه هنا، كل ده كنت بفكَّر فيه، وأنا شايفه واقف متخشِّب، وشبح البنت بيقرَّب منه، بشكله الأسود المُخيف، والظل اللي خارج منه، واللي كان بيكبر، وبيبلع المكان من حواليه، ومش عارف إن كان بلع “كريم” ولا لأ، لأن بعد اللي شوفته ده، لقيت نفسي في أوضتي، وقاعد قدام اللاب توب، وساعتها صورة البيت كانت اختفت من على الشاشة.
بعدها تليفوني رن، كان “كريم”، كالعادة يعني بعد كل رحلة لما بيتصل يحكي لي عن اللي شافه، فتحت المكالمة، ولقيت صوته متغيَّر، وكأنه كان بيجري مسافة طويلة، وبعدها قال:
-بقولك إيه يا “عصام”، بطَّل يا عم كلامك معايا عن البيوت المسكونة والظواهر والحكايات دي بقى.
-ليه يابني حصل إيه؟
-ما أنت عارف اللي حصل، في كل مرة بتتكلم معايا فيها عن حاجة بحلم بها، لدرجة إني حلمت بمنزل بورلي اللي كلمتني فيه الصبح.
-أيون لما كنت بتقول للبنت ماما نحلة؛ صح؟
-أنت بتهزَّر يا “عصام”، بقول لك شوفت شبح البنت.
كتمت ضحكتي كده وقولت له قبل ما أقفل المكالمة:
-ابقى اتغطَّى على شان متحلمش تاني، وبعدين ده مش شبح ولا حاجة، ده زمان البنت بعتت لك مامتها النحلة تقرُصك في الحلم.
***
تمت..